أينما يممنا وجوهنا شرقا وغربا سنجد من يحدثنا عن رحلة الروح بعد الموت ، فالأديان تجمع على أهمية الروح، فهي التي تحاسب، تثاب أو تعاقب، ثم تمضي إلى نعيم أو جحيم، أما الجسد فيقبع في القبر بلا أهمية، فهو لا محالة عائد إلى عناصره الأولية، ولن يتبقى منه في النهاية، من كل ذلك الكبر والغرور، سوى حفنة تراب!. بيد أن الناس لا تفكر في أرواحها قدر تفكرها في أجسادها، فالروح من علم الغيب، أما الجسد فهو ذات الإنسان وكيانه الذي عاش معه وأهتم لسلامته طيلة حياته، وهو الذي سيبقى في النهاية وحيدا يتعفن ببطء في ظلمات القبور. وبسبب الأهمية الكبرى التي يوليها البشر لأجسادهم، قررنا أن نترك الروح في حالها، لأنها من شأن بارئها، وعزمنا على ملاحقة الجسد في رحلته الأخيرة نحو الفناء، فمن الجيد أن يعرف الإنسان أي درب سيطوي إذا أزف وقت الرحيل.
عند سماع مفردة تحنيط أو مومياء فأن أول ما يقفز إلى الذهن طبعا هو مصر الفرعونية، فالمصريين القدماء كانوا بحق الأبرع في هذا المجال، لا يبزهم في ذلك أحد، لأن التحنيط لديهم أرتبط بشكل وثيق بعقائد ما بعد الموت فأكتسب أهمية قصوى وحاز عناية الفائقة، فبدون جسد محنط تنعدم فرصة المرء في أن يبعث حيا بعد الموت، يكون مصيره الفناء والعدم، ولتفادي هذا المصير المرعب حنط المصريون القدماء ملايين المومياءات خلال آلاف السنين، لم يفعلوا ذلك بطرا ولا لهوا، وإنما لأن التحنيط كان بوابتهم نحو الخلود.
هناك لغط وجدل كبير حول الفترة التي مارس الفراعنة التحنيط فيها لأول مرة، والمؤكد تاريخيا هو أن الجثث المحنطة الأولى لم تكن من صنع قدماء المصريين، وإنما يعود الفضل في تحنيطها إلى الطبيعة، حيث ساهم مناخ مصر الصحراوي الجاف والحار في تحويل الجثث إلى مومياء بشكل طبيعي، وأقدم نماذج تلك المومياءات الطبيعية تعود إلى عصر ما قبل الأسر الحاكمة، حيث عثر المنقبون في أواخر القرن التاسع عشر على مجموعة منها مدفونة في قبر جماعي، وكانت إحداها مومياء لامرأة أطلق عليها المنقبون أسم جينجر (Ginger ) بسبب خصلات شعرها الحمراء، وهي معروضة الآن في المتحف البريطاني.
وإذا كانت الجثث المحنطة الأولى قد ولدت من رحم أرض مصر، فلا شك في أن المصريين القدماء أدركوا في وقت مبكر خاصية أرضهم العجيبة في تحويل الجثث إلى مومياء، وحتما لعب هذا الإدراك دور كبير في تطور عقائد ما بعد الموت لديهم، فحين كانوا يفتحون القبر لسبب أو لآخر بعد سنوات طويلة على الوفاة، كانوا يكتشفون بأن الجثة ماتزال محفوظة بصورة جيدة كأنها دفنت حديثا، وكان ذلك يثير في نفوسهم حتما العديد من الأسئلة المتعلقة بمصير الإنسان بعد الموت، أسئلة تبلورت بالتدريج للتحول إلى بواكير أقدم المعتقدات في تاريخ بني البشر فيما يختص بالموت والبعث والقيامة والحساب.
أنواع التحنيط
بعيدا عن السرد التاريخي الرتيب لتطور صنعة التحنيط عبر العصور، فأن المصريين عرفوا التحنيط منذ عهد السلالة الأولى (3100 ق.م) وتطورت هذه الصنعة لديهم لتبلغ أوج كمالها ورقيها في عهد السلالة الواحدة والعشرين. عملية التحنيط بحد ذاتها كانت تجرى وفق طرق وأساليب مختلفة يلعب المقام والجاه والثراء دورا كبيرا في تحديدها. فبحسب المؤرخ الإغريقي هيرودوت كانت هناك ثلاث طرق رئيسية للتحنيط، بسيطة ومتوسطة وموسرة، النوع الأول كان من نصيب الفقراء الذين كان تحنيطهم يقتصر على غسل الجثة وتجفيفها في الملح، فيما حظي التجار وأرباب الحرف والموظفين الصغار بالنوع المتوسط، حيث كان زيت الصنوبر يستخدم لإذابة أحشاء الميت واستخراجها من دبره ثم تجفف الجثة وتلف بالكتان، أما النوع الأخير، أي الأكثر أتقانا وتفصيلا، فكان من نصيب الأغنياء والنبلاء، ويجري فيه أخراج جميع الأحشاء من الجسد بعناية. وغني عن القول هنا أن أكثر المحنطين حرفية، وأفضل المواد وأغلاها، كانت من نصيب الفرعون وأسرته.
كيف يتم التحنيط ؟
التحنيط أقترن بأنوبيس اله الموتى وحارس العالم السفلي، الذي كان يصور بجسد بشري ورأس أبن آوى، وكانت وظيفته تقوم على مرافقة الميت ومساعدته في تخطي العقبات خلال الرحلة الطويلة والمخيفة للمثول أمام اوزيرس، رب العالم السفلي وقاضي محكمة الموتى. ورحلة الميت الشاقة تلك كانت تنطلق عند ضفاف النيل، حيث ينقل جسد الميت بالقارب إلى الضفة الغربية من النهر حيث تنتصب حوانيت إيبو (Ibu ) أي بيت التطهير، والتي كانت مثل دور الجنائز في عصرنا الحالي، يديرها كهنة ومحنطون محترفون.
عملية التحنيط الطويلة كانت تبدأ بمد الميت فوق منضدة خشبية كبيرة حيث تغسل جثته وتطهر بواسطة ماء النيل ونبيذ الخل (Palm wine ) ثم تجفف استعدادا للخطوة التالية التي تتطلب استخراج أحشاء الميت عن طريق فتحة تشق في الجانب الأيسر من البطن، جميع الأحشاء كانت تستخرج عبر هذه الفتحة باستثناء القلب الذي كان يبقى في مكانه بسبب أهميته القصوى بالنسبة للميت، فهو الذي سيحدد مصيره في محكمة الآلهة، لأن الميت من دون قلب لن يكون بإمكانه أبدا اجتياز تلك المحاكمة الرهيبة.
الأحشاء المستخرجة (الكبد والرئة والمعدة والأمعاء) كانت تغسل جيدا بالنبيذ والمر ثم تجفف في ملح النطرون (Natron ) وأخيرا تطوى في لفائف الكتان وتحفظ في أربعة جرار فخارية تعرف بأسم الجرار الكانوبية (Canopic jars ) وهي تصنع على هيئة أبناء الإله حورس ألأربعة.
بالنسبة للدماغ فأن قدماء المصريين، مثل جميع شعوب العالم القديم، لم يعيروه اهتماما. كانوا يعتقدون بأن القلب هو مركز الذكاء والتفكير والإحساس، إما الدماغ فاعتبروه كما الزائدة الدودية بالنسبة لنا اليوم، أي عضو زائد بدون أي فائدة، لهذا كان المحنطون يستخرجونه بواسطة قضيب معدني من خلال فتحات الأنف ويرمونه بعيدا.
بعد الغسل والتنظيف واستخراج الأحشاء، يصبح الميت كدجاجة نظفت بالكامل، من الداخل والخارج، وأصبحت مهيأة للطبخ، لكن قدماء المصريون ما كانوا ليطبخوا موتاهم بالطبع، وإنما كانوا ينقعوهم كـ (المخلل) في محلول الملح حسبما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت في معرض حديثه عن التحنيط. بيد أن العلماء اليوم لهم رأي مغاير لما ذكره هيرودوت، فالمرجح لديهم هو أن الجثة كانت تمد فوق منضدة خشبية كبيرة ثم تحشى وتغطى بملح النطرون الجاف الذي كان يعمل على امتصاص السوائل منها فيمنع بذلك تحللها، وكانت هذه العملية تستغرق أربعين يوما، وربما يعود طقس أربعينية الميت الذي نمارسه اليوم في أصوله إلى فترة الأربعين يوما التي كانت الجثة الفرعونية تمضيها في الملح.
بعد انتهاء مرحلة التجفيف كانت الجثة تستخرج من الملح وتنظف وتغسل بحذر بمياه النيل، ثم كانت تدهن بزيت شجرة الأرز (Oil of Cedar ) لمنح الجلد الجاف بعض الطراوة، وأخيرا تنقل إلى بيت التجميل حيث يضع المحنطون لمساتهم الأخيرة عليها، يحشونها بمواد جافة كنشارة الخشب والمر لكي تستعيد هيئتها وشكلها السابق، ويقومون بإخفاء الجروح والخدوش بالأصباغ، وأخيرا كانوا يمسحونها بمزيج من الزيوت المعطرة والبخور والمر - صمغ الراتنج (Resin ) - واللبان.
لف الجثة كان يعتبر آخر مراحل التحنيط، وهذه العملية كانت تستغرق ما بين 13 إلى 15 يوم، تختفي الجثة خلالها وراء 9 كيلوغرامات من لفائف قماش الكتان التي كانت تلصق إلى بعض بواسطة صمغ الراتنج، وهو صمغ كان يستورد من اليمن. الطريف أن الفرس حين احتلوا مصر أواخر القرن السادس قبل الميلاد ظنوا خطأ بأن صمغ الراتنج المستعمل في لف المومياء هو مادة بيتومين (Bitumen ) – تستعمل اليوم في تعبيد الشوارع -، وهذه المادة تسمى بالفارسية (موم)، لهذا سميت الجثث المحنطة بالمومياء (Mummy ).
عملية لف الجثة كان يتخللها ترتيل الكهنة للأدعية والصلوات ودس العديد من التعاويذ والحجب السحرية بين طيات لفائف الكتان لطرد الأرواح الشريرة ولتسهيل خروج الـ (كا) من الجسد. وفي النهاية كانوا يرسمون صورة الميت فوق الكفن الكتاني أو يغطون الوجه بقناع الموت (قالب مأخوذ عن وجه الميت).
عملية التحنيط كلها، أي تجهيز الجثة وتجفيفها ولفها كانت تستغرق سبعين يوما، يأتي بعدها أهل الميت وأقاربه لاستلام مومياءه التي كانت تشيع في موكب مهيب نحو المدافن، لكن قبل دفنها كان يجب القيام بخطوة أخيرة لتتمكن المومياء من المضي في رحلتها نحو العالم الآخر، وهذه الخطوة تدعى طقوس "فتح الفم"، يؤديها أحد الكهنة من أجل إعادة بعض القدرات التي فقدها الميت بمفارقته للحياة، مثل النطق وتناول الطعام، وكذلك لجعل البا (الروح) تفارق الجسد لتتحد مع الكا (القرين)، وسنأتي على ذكر ذلك بالتفصيل لاحقا. الطريف أن المصريين القدماء كانوا يؤجرون نائحات محترفات ينحن على الميت ويندبنه خلال تشييعه إلى مثواه الأخير، وذلك لكي تظن الآلهة بأن الفقيد كان شخصا محبوبا في دنياه فتكافئه بدخول الجنة!.
المومياء كانت توضع في داخل ناووس حجري كبير –تابوت-، وكانوا يضعون مع الميت في قبره الجرار الكانوبية التي تحتوي أحشاءه، إضافة إلى بعض مقتنياته الثمينة ليستفيد منها في حياته الأخرى، وتوضع في القبر أيضا تماثيل صغيرة تدعى أوشبتي (Ushabti ) وظيفتها القيام بالأعمال التي ينبغي على الميت أدائها في العالم الآخر، فجنة المصريين القدماء تختلف عن الجنة التي نعرفها اليوم، إذ كانت تحتوي على حقول ومزارع سماوية يعيش فيها الموتى الصالحون، وهذه الحقول هي مثل الحقول الأرضية، بحاجة إلى عناية ورعاية دائمة، وهي مهمة كانت توكل إلى الـ (أوشبتي) ليقوم بها بدلا عن سيده الميت، فكانوايضعون 360 أوشبتي مع الميت، على عدد أيام السنة الفرعونية، ليقوم كل واحد منهم بعمل يوم واحد من السنة وهكذا دواليك.
العلماء يحاولون إماطة اللثام عن أسرار التحنيط
لعقود طويلة أختلف العلماء حول الطريقة والمواد التي استعملها المصريون القدماء في تحنيط موتاهم، ومرد هذا الخلاف الطويل يعود في حقيقة الأمر إلى قدماء المصريين أنفسهم، فهم لم يذكروا أبدا كيف كانوا يحنطون موتاهم، تركوا لنا ما لا يحصى من النقوش والرسوم والكتابات والتماثيل لكنهم لم يتطرقوا أبدا إلى التحنيط، كأنهم لم يمارسوه أبدا!. كان احد أسرارهم الكثيرة التي أخفوها عنا لسبب ما، مثلما لم يخبرونا أبدا كيف شيدوا أهراماتهم .. وما الغرض منها ؟ .. ولم يحدثونا عن مسلاتهم الشاهقة الارتفاع التي تزن مئات الأطنان .. لماذا وكيف نحتوها ونقلوها ونصبوها ؟.
ولأن الفراعنة سكتوا عن التحنيط ولم يذكروه في بردياتهم، لجأ العلماء إلى المصادر الإغريقية والرومانية علّهم يجدون فيها جوابا لأسئلتهم الحائرة. ويعد ما كتبه المؤرخ هيرودوت هو الأكثر تفصيلا بهذا الخصوص، فالرجل زار مصر بنفسه منتصف القرن الخامس قبل الميلاد وتحدث إلى كهنتها، إلا أن بعض ما ذكره يبدو غير منطقيا، كغمر الجثث في محلول الملح، الأمر الذي يتطلب أوني وقدور ضخمة، بينما وضعها في الملح الجاف يبدو أسهل وأكثر عملية. ومن أجل قطع الشك باليقين، وفي محاولة لإماطة اللثام عن لغز التحنيط، شمر عالمان أمريكيان عن سواعدهما لخوض تجربة مثيرة يقومان خلالها بتحنيط جثة بشرية حقيقية بنفس الوسائل والأساليب التي أتبعها قدماء المصريين، أي إنها في الحقيقة أول عملية تحنيط لمومياء بشرية منذ أكثر من 2000 عام.
التجربة التي أجريت في جامعة ماريلاند الأمريكية عام 1994، كان يقف وراءها رون واد مدير قسم التشريح في الجامعة، وبوب براير عالم المصريات في جامعة لونغايسلند الأمريكية. خطوة الرجلان الأولى تمثلت في السعي للحصول على جثة بشرية، وقد أثار دهشتهما العدد الكبير من الأشخاص الذين اتصلوا عارضين التبرع بأجسادهم بعد الموت للتجربة، لكنهما لم يرغبا بأي جثة، كانت لديهما شروط خاصة يجب توفرها. أرادا جثة لم يخضع صاحبها لأي عملية جراحية طوال حياته، ويخلوا جسده تماما من أي أورام أو أمراض المزمنة، كما أراداه متوسط الحجم، أي بحجم الإنسان المصري القديم. وفي الحقيقة لم يطل انتظارهما كثيرا، إذ سرعان ما توفرت لهم جثة مستوفية الشروط تعود لرجل عجوز توفي بالسكتة القلبية.
ولأن رون وبوب أرادا لتجربتهما إن تكون مصرية مائة في المائة، لذا طلبا من أحد الصاغة أن يصنع لهما سكاكين وأدوات معدنية مطابقة تماما لتلك التي أستعملها قدماء المصريين، وقدم لهم النجار طاولة خشبية كتلك التي كانت تمدد فوقها الجثث خلال عملية التحنيط، كما لم يبخل عليهما قسم السيراميك في جامعة ماريلاند بصناعة مجموعة متكاملة من الأواني والقدور الفخارية، تشبه تلك التي أستعملها قدماء المصريين، مع 360 تمثال (Ushabti ) كتلك التي كانت توضع مع المومياء في القبر. أما مواد التجربة فقد سافر الرجلان إلى مصر لجمعها، ذهبا إلى وادي النطرون لجمع 600 باوند من ملح النطرون الطبيعي، كما اشتريا من الأسواق المصرية مقادير مختلفة من نبيذ الخل وزيت الصنوبر وصمغ الراتينج الطبيعي (المر) واللبان.
والآن بعد أن تهيأت أسباب التجربة، شرع بوب ورون بتحنيط جثة العجوز داخل إحدى غرف مدرسة الطب في بالتيمور، مددا الجثة أولا فوق طاولة التحنيط الخشبية واستعدا لاستخراج الدماغ بنفس الأسلوب الذي أستعمله المحنط المصري القديم، أي عن طريق إدخال قضيب معدني معقوف الرأس عبر فتحات المنخر لتفتيت الدماغ واستخراجه قطعة فقطعة، لكن ذلك لم يكن سهلا أبدا، بل بدا لوهلة مستحيلا، أي أخراج الدماغ عبر هذه الفتحة الصغيرة، لكن بعد عدة محاولات توصلا للطريقة المثلى، فقد استعملا القضيب المعدني لتفتيت الدماغ ومزج محتوياته وتحويله إلى حالة شبه سائلة ثم قلبا الجثة على بطنها فنزلت "شوربة الدماغ" عبر فتحات المنخر بسهولة!، وأخيرا قاما بغسل تجويف الجمجمة وتطهيرها بنبيذ الخل واللبان.
الخطوة التالية كانت أخراج الأحشاء، وتماما كما كان يفعل قدماء المصريين، قاما بشق فتحة في الجانب الأيسر من بطن الجثة ثم استخرجوا الأحشاء كلها باستثناء القلب الذي كان المصريون يبقونه داخل الجثة، بعد ذلك قاما بغسل الأعضاء بنبيذ الخل واللبان والمر ثم جففوها في ملح النطرون وحفظوها في جرار الكانوبية الأربعة. وأخيرا عادا وغسلا التجويف البطني للجثة باستعمال نبيذ الخل والمر، ثم ملئوا التجويف برزم صغيرة من ملح النطرون الملفوف بقماش الكتان. وأخيرا غطيا الجثة كلها بـ 600 باوند من ملح النطرون.
عملية التجفيف استمرت لـ 35 يوما قام العالمان في نهايتها باستخراج الجثة من الملح، أفرغا التجويف البطني من رزم الملح ثم مسحاه بعناية بنبيذ الخل، وفي النهاية حشواه بنشارة الخشب واللبان والمر وأوراق اللوتس والصنوبر. وفي هذه المرحلة من التحنيط قام العلماء بأخذ عينات من نسيج المومياء الداخلي والخارجي، وكم كانت دهشتهم كبيرة حين اكتشفوا بأنه وبعد ثلاثة أشهر على موت العجوز محل التجربة فأن جسده الميت يبدو خاليا تماما من البكتيريا!، وهذا يكشف سر نجاح المومياءات المصرية في الاستمرار لآلاف السنين.
الخطوة الأخيرة في عملية التحنيط كانت لف المومياء بلفائف الكتان، وقد استمرت هذه العملية لعدة أيام وضعوا خلالها عددا من التعاويذ السحرية كتلك التي كان يضعها المصريون القدماء مع المومياء. وفي النهاية أصبحت المومياء التي أطلقوا عليها أسم موماب (Mumab ) مستعدة لبدء رحلتها إلى العالم الآخر، لكن المومياء الأمريكية انتهت رحلتها إلى داخل ناووس خشبي معروض في متحف الإنسان في مدينة ساندييغو.
لماذا كان المصريون يحنطون موتاهم ؟
أن إدراك مغزى التحنيط وسببه يتطلب في المقام الأول إلماما بالديانة الفرعونية وعقيدة الموت لدى قدماء المصريين، وهي عقيدة يشوبها شيء من التعقيد مقارنة بمعتقداتنا الدينية في العصر الحاضر، فالروح الفرعونية لم تكن كيانا واحدا كما هو مفهوم الروح المتعارف عليه لدى أتباع الأديان الإبراهيمية، بل كانت تتألف من أجزاء عدة هي : الاسم (Ren ) ، الظل (Sheut ) ، الروح (Ba ) ، النفس (Ka ) ، الروح النورانية (Akh ).
وباستثناء الروح النورانية فأن جميع الأجزاء الأخرى تولد مع الإنسان، فالظل يرافقه مدى الحياة، لا يوجد إنسان حي بدون ظل، وهو يرافقه بعد الموت أيضا كجزء من روحه وكيانه. والحال نفسها بالنسبة للاسم، فهو يمنح للإنسان عند الولادة ويبقى مرافقا له في الحياة والممات، فهو جزء مهم من كيانه يستحيل على الميت اجتياز محكمة الآلهة بدونه، لهذا كان مسح أسم الشخص وعدم نطقه يعتبر من أشد العقوبات بالنسبة للمصري القديم.
الـ (با) هي أشبه بالروح، ولكل إنسان (با) خاصة تميزه عن الآخرين، تولد معه وتبقى بعد موته، صورها المصريون القدماء على هيئة طائر برأس بشري، وهي تطير منتقلة ما بين العالم المادي والعالم الأخروي، تتماهى مع حركة اله الشمس (رع)، تحلق مع بزوغ الشمس لتتحد مع النفس (كا) ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب. وقد آمن المصريون بأن الـ (با) لن تستطيع العودة إلى القبر ما لم تتعرف على جسد صاحبها، لذلك حرصوا على أن تكون المومياء شبيهة بهيئة الميت حين كان على قيد الحياة.
الـ (كا) هي القرين، ويمكن تشبيهها بنسخة مطابقة تماما للإنسان (Copy )، فكل إنسان تخلقه الآلهة تجعل معه قرينا يرافقه كالظل في حياته ويفارقه عند مماته، لكن حتى بعد الممات يبقى الـ (كا) مقترنا بالجسد، فبدون جسد الميت (مومياء) لن يتمكن قرينه، أي الـ (كا)، من البقاء، وهو يحتاج إلى الطعام والماء والعناية لكي يتمكن من الاستمرار، لهذا السبب كان المصريون يضعون طعاما وماءا في القبر مع الميت، كانوا يؤمنون بأن الـ (كا) إذا أهملت من قبل أهل الميت فأنها قد تترك القبر وتتحول إلى أرواح شريرة تطارد الأحياء.
الـ (اخ) هي طاقة نورانية، وتعني الـ "المؤثر" أو "الفعال"، تنتج عن اتحاد الروح (با) مع النفس (كا) لتنال الخلود مع الآلهة في السماء، وهي غاية كل مصري قديم، لكن ليصل أليها فهو بحاجة للقيام برحلة مهولة يجتاز خلالها ظلمات العالم السفلي وبواباته المسحورة وصولا إلى قاعة الحقيقتين، حيث محكمة الآلهة العظام، هناك ستمثل روحه أمام اوزيريس وآلهة المحكمة القضاة، سيدفع الميت ببراءته من الذنوب والآثام، وللتأكد من ذلك سيوضع قلبه في كفة الميزان مقابل ريشة الحقيقة معات، الناجون من هذا الاختبار ستصعد أرواح إلى السماء لتنال الخلود مع الآلهة، أما من ثقلت موازينهم فبأنتظارهم الوحش المرعب أمميت، المتربص بقلوب الخاطئين ليلتهمها فيكون مصير أصحابها الفناء والعدم.
والآن أظن بأن المغزى من التحنيط أصبح واضحا، فالمصري القديم كان متعطشا للخلود، كان يكره فكرة الفناء، لهذا بذل قصارى جهده ليضمن لنفسه حياة أخرى بعد الموت - وهذا يفسر ارتباط معظم الآثار المصرية بالقبور والمدافن - ، لكنه بحاجة إلى جسد لضمان الوصول إلى غايته، فبدون جسد لا يوجد أسم ولا ظل ولا قلب، وهي أمور سيحتاجها عند المثول في حضرة الآلهة في محكمة الموتى، كما أن الـ (با) لن تتمكن من العودة إلى القبر بدون جسد ولا الـ (كا) ستتمكن من البقاء والاستمرار، وبدون الـ (با) و الـ (كا) لن يحصل أبدا على الخلود .. ما العمل أذن ؟ كيف يضمن المصري القديم بقاء جسده بعد الموت وعدم تحلله وفناءه
الحل طبعا يكمن في التحنيط، بالضبط كما فعلت الربة ايزيس مع رفات زوجها الحبيب أوزيريس، ملك مصر العظيم الذي مزق جسده أربا أخوه الحاقد والشرير الإله ست. لقد لملمت ايزيس أشلاء زوجها، حفظتها وجمعتها ثانية، فقام أوزيريس من بين الموتى ليصبح شفيع المصريين وحبيبهم، رب العالم السفلي، القاضي الديان في محكمة الموتى، وهكذا فأن كل مصري على مدى ثلاثة آلاف سنة كان يحرص أشد الحرص على حفظ جسده، فهو يرغب في حياة جديدة بعد الموت، تماما مثل ألهه الحبيب، يود أن يتحد بالرب ويصبح خالدا مثله .. أوزيريس .. يالها من فكرة سامية، أن يصبح الإنسان ربا!.
مسك الختام ..
لقد انتهت الحقبة الفرعونية منذ ألفي عام تقريبا، اختفت معابد الآلهة بالتدريج لترتفع محلها أجراس الكنائس ومآذن المساجد، لكن كن على ثقة عزيزي القارئ بأن هناك العديد من العقائد الفرعونية استمرت بالحياة بأسم وثوب جديد. ومن سخرية الأقدار أن تجد اليوم أناسا يتندرون على المصري القديم بسبب اهتمامه المفرط بالحياة الأخرى وإسرافه في التهيؤ للموت، أليست مفارقة أن يسخر أناس فشلوا - على جميع المستويات - من شعب عظيم شيد واحدة من أرقى الحضارات التي عرفها الكوكب!. ثم السنا جميعا نسرف في التهيؤ للحياة الأخرى ؟ نمضي الساعات الطويلة في الصلاة والدعاء والاعتكاف، نحرم أنفسنا من متع الحياة وملذاتها، ننفق مليارات الدولارات في بناء معابد دينية ، فضائيات دينية ، جامعات دينية ، مؤسسات دينية ، مكتبات دينية ، مواقع انترنت دينية .. الخ .. ولا نعد ذلك إسرافا!! .. على الأقل المصري القديم أنفق أمواله وأفرغ خزائنه في بناء أهرامات وآثار لازالت – بعد 4500 عام! - تدر على خزينة مصر ملايين الدولارات سنويا .. أما نحن فماذا فعلنا في زماننا "الأغبر" هذا سوى الشكوى والنحيب والتحجج بقائمة طويلة من الذرائع الواهية .. بدءا من الاستعمار والمؤامرات والدسائس والعملاء .. وصولا إلى التغيير المناخي والمسلسلات المدبلجة وأنفلونزا الخنازير والجن الأزرق .. الخ ..
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ *** ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ *** ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
- الأبيات للإمام الشافعي رحمه الله -
عند سماع مفردة تحنيط أو مومياء فأن أول ما يقفز إلى الذهن طبعا هو مصر الفرعونية، فالمصريين القدماء كانوا بحق الأبرع في هذا المجال، لا يبزهم في ذلك أحد، لأن التحنيط لديهم أرتبط بشكل وثيق بعقائد ما بعد الموت فأكتسب أهمية قصوى وحاز عناية الفائقة، فبدون جسد محنط تنعدم فرصة المرء في أن يبعث حيا بعد الموت، يكون مصيره الفناء والعدم، ولتفادي هذا المصير المرعب حنط المصريون القدماء ملايين المومياءات خلال آلاف السنين، لم يفعلوا ذلك بطرا ولا لهوا، وإنما لأن التحنيط كان بوابتهم نحو الخلود.
هناك لغط وجدل كبير حول الفترة التي مارس الفراعنة التحنيط فيها لأول مرة، والمؤكد تاريخيا هو أن الجثث المحنطة الأولى لم تكن من صنع قدماء المصريين، وإنما يعود الفضل في تحنيطها إلى الطبيعة، حيث ساهم مناخ مصر الصحراوي الجاف والحار في تحويل الجثث إلى مومياء بشكل طبيعي، وأقدم نماذج تلك المومياءات الطبيعية تعود إلى عصر ما قبل الأسر الحاكمة، حيث عثر المنقبون في أواخر القرن التاسع عشر على مجموعة منها مدفونة في قبر جماعي، وكانت إحداها مومياء لامرأة أطلق عليها المنقبون أسم جينجر (Ginger ) بسبب خصلات شعرها الحمراء، وهي معروضة الآن في المتحف البريطاني.
وإذا كانت الجثث المحنطة الأولى قد ولدت من رحم أرض مصر، فلا شك في أن المصريين القدماء أدركوا في وقت مبكر خاصية أرضهم العجيبة في تحويل الجثث إلى مومياء، وحتما لعب هذا الإدراك دور كبير في تطور عقائد ما بعد الموت لديهم، فحين كانوا يفتحون القبر لسبب أو لآخر بعد سنوات طويلة على الوفاة، كانوا يكتشفون بأن الجثة ماتزال محفوظة بصورة جيدة كأنها دفنت حديثا، وكان ذلك يثير في نفوسهم حتما العديد من الأسئلة المتعلقة بمصير الإنسان بعد الموت، أسئلة تبلورت بالتدريج للتحول إلى بواكير أقدم المعتقدات في تاريخ بني البشر فيما يختص بالموت والبعث والقيامة والحساب.
أنواع التحنيط
بعيدا عن السرد التاريخي الرتيب لتطور صنعة التحنيط عبر العصور، فأن المصريين عرفوا التحنيط منذ عهد السلالة الأولى (3100 ق.م) وتطورت هذه الصنعة لديهم لتبلغ أوج كمالها ورقيها في عهد السلالة الواحدة والعشرين. عملية التحنيط بحد ذاتها كانت تجرى وفق طرق وأساليب مختلفة يلعب المقام والجاه والثراء دورا كبيرا في تحديدها. فبحسب المؤرخ الإغريقي هيرودوت كانت هناك ثلاث طرق رئيسية للتحنيط، بسيطة ومتوسطة وموسرة، النوع الأول كان من نصيب الفقراء الذين كان تحنيطهم يقتصر على غسل الجثة وتجفيفها في الملح، فيما حظي التجار وأرباب الحرف والموظفين الصغار بالنوع المتوسط، حيث كان زيت الصنوبر يستخدم لإذابة أحشاء الميت واستخراجها من دبره ثم تجفف الجثة وتلف بالكتان، أما النوع الأخير، أي الأكثر أتقانا وتفصيلا، فكان من نصيب الأغنياء والنبلاء، ويجري فيه أخراج جميع الأحشاء من الجسد بعناية. وغني عن القول هنا أن أكثر المحنطين حرفية، وأفضل المواد وأغلاها، كانت من نصيب الفرعون وأسرته.
كيف يتم التحنيط ؟
التحنيط أقترن بأنوبيس اله الموتى وحارس العالم السفلي، الذي كان يصور بجسد بشري ورأس أبن آوى، وكانت وظيفته تقوم على مرافقة الميت ومساعدته في تخطي العقبات خلال الرحلة الطويلة والمخيفة للمثول أمام اوزيرس، رب العالم السفلي وقاضي محكمة الموتى. ورحلة الميت الشاقة تلك كانت تنطلق عند ضفاف النيل، حيث ينقل جسد الميت بالقارب إلى الضفة الغربية من النهر حيث تنتصب حوانيت إيبو (Ibu ) أي بيت التطهير، والتي كانت مثل دور الجنائز في عصرنا الحالي، يديرها كهنة ومحنطون محترفون.
عملية التحنيط الطويلة كانت تبدأ بمد الميت فوق منضدة خشبية كبيرة حيث تغسل جثته وتطهر بواسطة ماء النيل ونبيذ الخل (Palm wine ) ثم تجفف استعدادا للخطوة التالية التي تتطلب استخراج أحشاء الميت عن طريق فتحة تشق في الجانب الأيسر من البطن، جميع الأحشاء كانت تستخرج عبر هذه الفتحة باستثناء القلب الذي كان يبقى في مكانه بسبب أهميته القصوى بالنسبة للميت، فهو الذي سيحدد مصيره في محكمة الآلهة، لأن الميت من دون قلب لن يكون بإمكانه أبدا اجتياز تلك المحاكمة الرهيبة.
الأحشاء المستخرجة (الكبد والرئة والمعدة والأمعاء) كانت تغسل جيدا بالنبيذ والمر ثم تجفف في ملح النطرون (Natron ) وأخيرا تطوى في لفائف الكتان وتحفظ في أربعة جرار فخارية تعرف بأسم الجرار الكانوبية (Canopic jars ) وهي تصنع على هيئة أبناء الإله حورس ألأربعة.
بالنسبة للدماغ فأن قدماء المصريين، مثل جميع شعوب العالم القديم، لم يعيروه اهتماما. كانوا يعتقدون بأن القلب هو مركز الذكاء والتفكير والإحساس، إما الدماغ فاعتبروه كما الزائدة الدودية بالنسبة لنا اليوم، أي عضو زائد بدون أي فائدة، لهذا كان المحنطون يستخرجونه بواسطة قضيب معدني من خلال فتحات الأنف ويرمونه بعيدا.
بعد الغسل والتنظيف واستخراج الأحشاء، يصبح الميت كدجاجة نظفت بالكامل، من الداخل والخارج، وأصبحت مهيأة للطبخ، لكن قدماء المصريون ما كانوا ليطبخوا موتاهم بالطبع، وإنما كانوا ينقعوهم كـ (المخلل) في محلول الملح حسبما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت في معرض حديثه عن التحنيط. بيد أن العلماء اليوم لهم رأي مغاير لما ذكره هيرودوت، فالمرجح لديهم هو أن الجثة كانت تمد فوق منضدة خشبية كبيرة ثم تحشى وتغطى بملح النطرون الجاف الذي كان يعمل على امتصاص السوائل منها فيمنع بذلك تحللها، وكانت هذه العملية تستغرق أربعين يوما، وربما يعود طقس أربعينية الميت الذي نمارسه اليوم في أصوله إلى فترة الأربعين يوما التي كانت الجثة الفرعونية تمضيها في الملح.
بعد انتهاء مرحلة التجفيف كانت الجثة تستخرج من الملح وتنظف وتغسل بحذر بمياه النيل، ثم كانت تدهن بزيت شجرة الأرز (Oil of Cedar ) لمنح الجلد الجاف بعض الطراوة، وأخيرا تنقل إلى بيت التجميل حيث يضع المحنطون لمساتهم الأخيرة عليها، يحشونها بمواد جافة كنشارة الخشب والمر لكي تستعيد هيئتها وشكلها السابق، ويقومون بإخفاء الجروح والخدوش بالأصباغ، وأخيرا كانوا يمسحونها بمزيج من الزيوت المعطرة والبخور والمر - صمغ الراتنج (Resin ) - واللبان.
لف الجثة كان يعتبر آخر مراحل التحنيط، وهذه العملية كانت تستغرق ما بين 13 إلى 15 يوم، تختفي الجثة خلالها وراء 9 كيلوغرامات من لفائف قماش الكتان التي كانت تلصق إلى بعض بواسطة صمغ الراتنج، وهو صمغ كان يستورد من اليمن. الطريف أن الفرس حين احتلوا مصر أواخر القرن السادس قبل الميلاد ظنوا خطأ بأن صمغ الراتنج المستعمل في لف المومياء هو مادة بيتومين (Bitumen ) – تستعمل اليوم في تعبيد الشوارع -، وهذه المادة تسمى بالفارسية (موم)، لهذا سميت الجثث المحنطة بالمومياء (Mummy ).
عملية لف الجثة كان يتخللها ترتيل الكهنة للأدعية والصلوات ودس العديد من التعاويذ والحجب السحرية بين طيات لفائف الكتان لطرد الأرواح الشريرة ولتسهيل خروج الـ (كا) من الجسد. وفي النهاية كانوا يرسمون صورة الميت فوق الكفن الكتاني أو يغطون الوجه بقناع الموت (قالب مأخوذ عن وجه الميت).
عملية التحنيط كلها، أي تجهيز الجثة وتجفيفها ولفها كانت تستغرق سبعين يوما، يأتي بعدها أهل الميت وأقاربه لاستلام مومياءه التي كانت تشيع في موكب مهيب نحو المدافن، لكن قبل دفنها كان يجب القيام بخطوة أخيرة لتتمكن المومياء من المضي في رحلتها نحو العالم الآخر، وهذه الخطوة تدعى طقوس "فتح الفم"، يؤديها أحد الكهنة من أجل إعادة بعض القدرات التي فقدها الميت بمفارقته للحياة، مثل النطق وتناول الطعام، وكذلك لجعل البا (الروح) تفارق الجسد لتتحد مع الكا (القرين)، وسنأتي على ذكر ذلك بالتفصيل لاحقا. الطريف أن المصريين القدماء كانوا يؤجرون نائحات محترفات ينحن على الميت ويندبنه خلال تشييعه إلى مثواه الأخير، وذلك لكي تظن الآلهة بأن الفقيد كان شخصا محبوبا في دنياه فتكافئه بدخول الجنة!.
المومياء كانت توضع في داخل ناووس حجري كبير –تابوت-، وكانوا يضعون مع الميت في قبره الجرار الكانوبية التي تحتوي أحشاءه، إضافة إلى بعض مقتنياته الثمينة ليستفيد منها في حياته الأخرى، وتوضع في القبر أيضا تماثيل صغيرة تدعى أوشبتي (Ushabti ) وظيفتها القيام بالأعمال التي ينبغي على الميت أدائها في العالم الآخر، فجنة المصريين القدماء تختلف عن الجنة التي نعرفها اليوم، إذ كانت تحتوي على حقول ومزارع سماوية يعيش فيها الموتى الصالحون، وهذه الحقول هي مثل الحقول الأرضية، بحاجة إلى عناية ورعاية دائمة، وهي مهمة كانت توكل إلى الـ (أوشبتي) ليقوم بها بدلا عن سيده الميت، فكانوايضعون 360 أوشبتي مع الميت، على عدد أيام السنة الفرعونية، ليقوم كل واحد منهم بعمل يوم واحد من السنة وهكذا دواليك.
العلماء يحاولون إماطة اللثام عن أسرار التحنيط
لعقود طويلة أختلف العلماء حول الطريقة والمواد التي استعملها المصريون القدماء في تحنيط موتاهم، ومرد هذا الخلاف الطويل يعود في حقيقة الأمر إلى قدماء المصريين أنفسهم، فهم لم يذكروا أبدا كيف كانوا يحنطون موتاهم، تركوا لنا ما لا يحصى من النقوش والرسوم والكتابات والتماثيل لكنهم لم يتطرقوا أبدا إلى التحنيط، كأنهم لم يمارسوه أبدا!. كان احد أسرارهم الكثيرة التي أخفوها عنا لسبب ما، مثلما لم يخبرونا أبدا كيف شيدوا أهراماتهم .. وما الغرض منها ؟ .. ولم يحدثونا عن مسلاتهم الشاهقة الارتفاع التي تزن مئات الأطنان .. لماذا وكيف نحتوها ونقلوها ونصبوها ؟.
ولأن الفراعنة سكتوا عن التحنيط ولم يذكروه في بردياتهم، لجأ العلماء إلى المصادر الإغريقية والرومانية علّهم يجدون فيها جوابا لأسئلتهم الحائرة. ويعد ما كتبه المؤرخ هيرودوت هو الأكثر تفصيلا بهذا الخصوص، فالرجل زار مصر بنفسه منتصف القرن الخامس قبل الميلاد وتحدث إلى كهنتها، إلا أن بعض ما ذكره يبدو غير منطقيا، كغمر الجثث في محلول الملح، الأمر الذي يتطلب أوني وقدور ضخمة، بينما وضعها في الملح الجاف يبدو أسهل وأكثر عملية. ومن أجل قطع الشك باليقين، وفي محاولة لإماطة اللثام عن لغز التحنيط، شمر عالمان أمريكيان عن سواعدهما لخوض تجربة مثيرة يقومان خلالها بتحنيط جثة بشرية حقيقية بنفس الوسائل والأساليب التي أتبعها قدماء المصريين، أي إنها في الحقيقة أول عملية تحنيط لمومياء بشرية منذ أكثر من 2000 عام.
التجربة التي أجريت في جامعة ماريلاند الأمريكية عام 1994، كان يقف وراءها رون واد مدير قسم التشريح في الجامعة، وبوب براير عالم المصريات في جامعة لونغايسلند الأمريكية. خطوة الرجلان الأولى تمثلت في السعي للحصول على جثة بشرية، وقد أثار دهشتهما العدد الكبير من الأشخاص الذين اتصلوا عارضين التبرع بأجسادهم بعد الموت للتجربة، لكنهما لم يرغبا بأي جثة، كانت لديهما شروط خاصة يجب توفرها. أرادا جثة لم يخضع صاحبها لأي عملية جراحية طوال حياته، ويخلوا جسده تماما من أي أورام أو أمراض المزمنة، كما أراداه متوسط الحجم، أي بحجم الإنسان المصري القديم. وفي الحقيقة لم يطل انتظارهما كثيرا، إذ سرعان ما توفرت لهم جثة مستوفية الشروط تعود لرجل عجوز توفي بالسكتة القلبية.
ولأن رون وبوب أرادا لتجربتهما إن تكون مصرية مائة في المائة، لذا طلبا من أحد الصاغة أن يصنع لهما سكاكين وأدوات معدنية مطابقة تماما لتلك التي أستعملها قدماء المصريين، وقدم لهم النجار طاولة خشبية كتلك التي كانت تمدد فوقها الجثث خلال عملية التحنيط، كما لم يبخل عليهما قسم السيراميك في جامعة ماريلاند بصناعة مجموعة متكاملة من الأواني والقدور الفخارية، تشبه تلك التي أستعملها قدماء المصريين، مع 360 تمثال (Ushabti ) كتلك التي كانت توضع مع المومياء في القبر. أما مواد التجربة فقد سافر الرجلان إلى مصر لجمعها، ذهبا إلى وادي النطرون لجمع 600 باوند من ملح النطرون الطبيعي، كما اشتريا من الأسواق المصرية مقادير مختلفة من نبيذ الخل وزيت الصنوبر وصمغ الراتينج الطبيعي (المر) واللبان.
والآن بعد أن تهيأت أسباب التجربة، شرع بوب ورون بتحنيط جثة العجوز داخل إحدى غرف مدرسة الطب في بالتيمور، مددا الجثة أولا فوق طاولة التحنيط الخشبية واستعدا لاستخراج الدماغ بنفس الأسلوب الذي أستعمله المحنط المصري القديم، أي عن طريق إدخال قضيب معدني معقوف الرأس عبر فتحات المنخر لتفتيت الدماغ واستخراجه قطعة فقطعة، لكن ذلك لم يكن سهلا أبدا، بل بدا لوهلة مستحيلا، أي أخراج الدماغ عبر هذه الفتحة الصغيرة، لكن بعد عدة محاولات توصلا للطريقة المثلى، فقد استعملا القضيب المعدني لتفتيت الدماغ ومزج محتوياته وتحويله إلى حالة شبه سائلة ثم قلبا الجثة على بطنها فنزلت "شوربة الدماغ" عبر فتحات المنخر بسهولة!، وأخيرا قاما بغسل تجويف الجمجمة وتطهيرها بنبيذ الخل واللبان.
الخطوة التالية كانت أخراج الأحشاء، وتماما كما كان يفعل قدماء المصريين، قاما بشق فتحة في الجانب الأيسر من بطن الجثة ثم استخرجوا الأحشاء كلها باستثناء القلب الذي كان المصريون يبقونه داخل الجثة، بعد ذلك قاما بغسل الأعضاء بنبيذ الخل واللبان والمر ثم جففوها في ملح النطرون وحفظوها في جرار الكانوبية الأربعة. وأخيرا عادا وغسلا التجويف البطني للجثة باستعمال نبيذ الخل والمر، ثم ملئوا التجويف برزم صغيرة من ملح النطرون الملفوف بقماش الكتان. وأخيرا غطيا الجثة كلها بـ 600 باوند من ملح النطرون.
عملية التجفيف استمرت لـ 35 يوما قام العالمان في نهايتها باستخراج الجثة من الملح، أفرغا التجويف البطني من رزم الملح ثم مسحاه بعناية بنبيذ الخل، وفي النهاية حشواه بنشارة الخشب واللبان والمر وأوراق اللوتس والصنوبر. وفي هذه المرحلة من التحنيط قام العلماء بأخذ عينات من نسيج المومياء الداخلي والخارجي، وكم كانت دهشتهم كبيرة حين اكتشفوا بأنه وبعد ثلاثة أشهر على موت العجوز محل التجربة فأن جسده الميت يبدو خاليا تماما من البكتيريا!، وهذا يكشف سر نجاح المومياءات المصرية في الاستمرار لآلاف السنين.
الخطوة الأخيرة في عملية التحنيط كانت لف المومياء بلفائف الكتان، وقد استمرت هذه العملية لعدة أيام وضعوا خلالها عددا من التعاويذ السحرية كتلك التي كان يضعها المصريون القدماء مع المومياء. وفي النهاية أصبحت المومياء التي أطلقوا عليها أسم موماب (Mumab ) مستعدة لبدء رحلتها إلى العالم الآخر، لكن المومياء الأمريكية انتهت رحلتها إلى داخل ناووس خشبي معروض في متحف الإنسان في مدينة ساندييغو.
لماذا كان المصريون يحنطون موتاهم ؟
أن إدراك مغزى التحنيط وسببه يتطلب في المقام الأول إلماما بالديانة الفرعونية وعقيدة الموت لدى قدماء المصريين، وهي عقيدة يشوبها شيء من التعقيد مقارنة بمعتقداتنا الدينية في العصر الحاضر، فالروح الفرعونية لم تكن كيانا واحدا كما هو مفهوم الروح المتعارف عليه لدى أتباع الأديان الإبراهيمية، بل كانت تتألف من أجزاء عدة هي : الاسم (Ren ) ، الظل (Sheut ) ، الروح (Ba ) ، النفس (Ka ) ، الروح النورانية (Akh ).
وباستثناء الروح النورانية فأن جميع الأجزاء الأخرى تولد مع الإنسان، فالظل يرافقه مدى الحياة، لا يوجد إنسان حي بدون ظل، وهو يرافقه بعد الموت أيضا كجزء من روحه وكيانه. والحال نفسها بالنسبة للاسم، فهو يمنح للإنسان عند الولادة ويبقى مرافقا له في الحياة والممات، فهو جزء مهم من كيانه يستحيل على الميت اجتياز محكمة الآلهة بدونه، لهذا كان مسح أسم الشخص وعدم نطقه يعتبر من أشد العقوبات بالنسبة للمصري القديم.
الـ (با) هي أشبه بالروح، ولكل إنسان (با) خاصة تميزه عن الآخرين، تولد معه وتبقى بعد موته، صورها المصريون القدماء على هيئة طائر برأس بشري، وهي تطير منتقلة ما بين العالم المادي والعالم الأخروي، تتماهى مع حركة اله الشمس (رع)، تحلق مع بزوغ الشمس لتتحد مع النفس (كا) ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب. وقد آمن المصريون بأن الـ (با) لن تستطيع العودة إلى القبر ما لم تتعرف على جسد صاحبها، لذلك حرصوا على أن تكون المومياء شبيهة بهيئة الميت حين كان على قيد الحياة.
الـ (كا) هي القرين، ويمكن تشبيهها بنسخة مطابقة تماما للإنسان (Copy )، فكل إنسان تخلقه الآلهة تجعل معه قرينا يرافقه كالظل في حياته ويفارقه عند مماته، لكن حتى بعد الممات يبقى الـ (كا) مقترنا بالجسد، فبدون جسد الميت (مومياء) لن يتمكن قرينه، أي الـ (كا)، من البقاء، وهو يحتاج إلى الطعام والماء والعناية لكي يتمكن من الاستمرار، لهذا السبب كان المصريون يضعون طعاما وماءا في القبر مع الميت، كانوا يؤمنون بأن الـ (كا) إذا أهملت من قبل أهل الميت فأنها قد تترك القبر وتتحول إلى أرواح شريرة تطارد الأحياء.
الـ (اخ) هي طاقة نورانية، وتعني الـ "المؤثر" أو "الفعال"، تنتج عن اتحاد الروح (با) مع النفس (كا) لتنال الخلود مع الآلهة في السماء، وهي غاية كل مصري قديم، لكن ليصل أليها فهو بحاجة للقيام برحلة مهولة يجتاز خلالها ظلمات العالم السفلي وبواباته المسحورة وصولا إلى قاعة الحقيقتين، حيث محكمة الآلهة العظام، هناك ستمثل روحه أمام اوزيريس وآلهة المحكمة القضاة، سيدفع الميت ببراءته من الذنوب والآثام، وللتأكد من ذلك سيوضع قلبه في كفة الميزان مقابل ريشة الحقيقة معات، الناجون من هذا الاختبار ستصعد أرواح إلى السماء لتنال الخلود مع الآلهة، أما من ثقلت موازينهم فبأنتظارهم الوحش المرعب أمميت، المتربص بقلوب الخاطئين ليلتهمها فيكون مصير أصحابها الفناء والعدم.
والآن أظن بأن المغزى من التحنيط أصبح واضحا، فالمصري القديم كان متعطشا للخلود، كان يكره فكرة الفناء، لهذا بذل قصارى جهده ليضمن لنفسه حياة أخرى بعد الموت - وهذا يفسر ارتباط معظم الآثار المصرية بالقبور والمدافن - ، لكنه بحاجة إلى جسد لضمان الوصول إلى غايته، فبدون جسد لا يوجد أسم ولا ظل ولا قلب، وهي أمور سيحتاجها عند المثول في حضرة الآلهة في محكمة الموتى، كما أن الـ (با) لن تتمكن من العودة إلى القبر بدون جسد ولا الـ (كا) ستتمكن من البقاء والاستمرار، وبدون الـ (با) و الـ (كا) لن يحصل أبدا على الخلود .. ما العمل أذن ؟ كيف يضمن المصري القديم بقاء جسده بعد الموت وعدم تحلله وفناءه
الحل طبعا يكمن في التحنيط، بالضبط كما فعلت الربة ايزيس مع رفات زوجها الحبيب أوزيريس، ملك مصر العظيم الذي مزق جسده أربا أخوه الحاقد والشرير الإله ست. لقد لملمت ايزيس أشلاء زوجها، حفظتها وجمعتها ثانية، فقام أوزيريس من بين الموتى ليصبح شفيع المصريين وحبيبهم، رب العالم السفلي، القاضي الديان في محكمة الموتى، وهكذا فأن كل مصري على مدى ثلاثة آلاف سنة كان يحرص أشد الحرص على حفظ جسده، فهو يرغب في حياة جديدة بعد الموت، تماما مثل ألهه الحبيب، يود أن يتحد بالرب ويصبح خالدا مثله .. أوزيريس .. يالها من فكرة سامية، أن يصبح الإنسان ربا!.
مسك الختام ..
لقد انتهت الحقبة الفرعونية منذ ألفي عام تقريبا، اختفت معابد الآلهة بالتدريج لترتفع محلها أجراس الكنائس ومآذن المساجد، لكن كن على ثقة عزيزي القارئ بأن هناك العديد من العقائد الفرعونية استمرت بالحياة بأسم وثوب جديد. ومن سخرية الأقدار أن تجد اليوم أناسا يتندرون على المصري القديم بسبب اهتمامه المفرط بالحياة الأخرى وإسرافه في التهيؤ للموت، أليست مفارقة أن يسخر أناس فشلوا - على جميع المستويات - من شعب عظيم شيد واحدة من أرقى الحضارات التي عرفها الكوكب!. ثم السنا جميعا نسرف في التهيؤ للحياة الأخرى ؟ نمضي الساعات الطويلة في الصلاة والدعاء والاعتكاف، نحرم أنفسنا من متع الحياة وملذاتها، ننفق مليارات الدولارات في بناء معابد دينية ، فضائيات دينية ، جامعات دينية ، مؤسسات دينية ، مكتبات دينية ، مواقع انترنت دينية .. الخ .. ولا نعد ذلك إسرافا!! .. على الأقل المصري القديم أنفق أمواله وأفرغ خزائنه في بناء أهرامات وآثار لازالت – بعد 4500 عام! - تدر على خزينة مصر ملايين الدولارات سنويا .. أما نحن فماذا فعلنا في زماننا "الأغبر" هذا سوى الشكوى والنحيب والتحجج بقائمة طويلة من الذرائع الواهية .. بدءا من الاستعمار والمؤامرات والدسائس والعملاء .. وصولا إلى التغيير المناخي والمسلسلات المدبلجة وأنفلونزا الخنازير والجن الأزرق .. الخ ..
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ *** ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ *** ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
- الأبيات للإمام الشافعي رحمه الله -